القائمة الرئيسية

الصفحات

أسطورة طائر الفينكس

طَائر الفينكس أسطُورَة الحَيَاة المثلَى* لعلَّ أصعب ما يلاقيه الفكرُ هو الفصل بين حقيقة الوجود وأوهامه. غير أنَّ أكثر النَّاس لا يفكِّرون، فلا يتردَّدون لحظة في إقامة الحدود بين ما يدعونه حقيقة وما يروقهم أن يدمغوه بدمغة الوهم أو الخرافة. هكذا فالغراب في نظرهم حقيقة. أمَّا الفينكس فخرافة لا يؤمن بها إلاَّ البسطاء والقدماء. في رأس أعلى شجرة من الغابة قد جثم طائرٌ لا شبيه له في كلِّ الخليقة. وقد اتَّجه نحو الشمس، فبانت كلُّ ريشة من صدره القرمزي الناعم كما لو كانت تلتهب بنار من عالم آخر. وكلُّ ريشة من جناحيه الذهبيَّين، المغموسة أطرافُهما في زرقة ولا زرقة السماء، كما لو كانت تقدح شرارًا من شرار الثريا. عنقه الطويل الجميل، المطوَّق بطوق ناصع البياض، قد تقوَّس إلى الأمام. أمَّا رأسه الدقيق الصنع فقد ارتدَّ قليلاً إلى الوراء مصوِّبًا منقاره الحادَّ نحو الشمس. لقد جمع هذا الطائر بين زخرفة الطاووس وجمال طائر الفردوس، دون خُيَلاء الأوَّل وخجل الثاني. وهو ينظر بطمأنينة إلى الشرق كأنَّه لا يشعر بوجود شيء في العالم إلاَّ الشمس – مصدر النور والحياة. ترفرف من حواليه طيور كثيرة ما بين كبيرة وصغيرة، وإذ تمرُّ به تخفض أجنحتها مسلِّمةً عليه سلام إعجاب واحترام. حتى إن القويَّ من الفَراش الذي تمكِّنه أجنحتُه من الوصول إليه يرفرف حواليه مرَّتين أو ثلاثًا، ثم يهبط إلى الأرض شاكرًا جذِلاً. الغابة تعجُّ بالأصوات من طائر يناجي عشيره أو وحش ينادي رفيقه – إلاَّ هذا الطائر الغريب. فهو لا يناجي أحدًا ولا أحد يناجيه. إذ لا عشير له ولا رفيق، لا في مشارق الأرض ولا في مغاربها، ولا في عالم آخر من العوالم الدائرة في الفضاء. سواه من الطيور منهمك في بناء أعشاش أو تربية فراخ؛ أمَّا هو فلا عشٌّ يبنيه ولا فراخ يزقُّها. سواه يرفرف هنا وهنالك طالبًا قوتًا؛ أمَّا هو فلا يقتات بشيء حيٍّ بل بالبخور والعطور. سواه من الطيور يصيح فَرَقًا وقد علق في مخالب عدوِّه؛ أمَّا هو فلا يعرف الخوف لأنَّه لا يؤذي مخلوقًا فلا يؤذيه مخلوق، لا ولا تؤذيه العناصر. هو وحيد في العالم كلِّه. لكنَّه لا وحدة في قلبه ولا وحشة. سواه من الطيور يبدِّل ريشه مرَّة في كل عام؛ أمَّا هو فلم يبدل ريشة واحدة منذ أن كان له من العمر يوم واحد – وذلك منذ خمسمائة سنة! غير أنَّ الوقت قد أزف حتى للفينكس أن "يتغيَّر". لا صوت يهمس في أذنيه؛ ولا إصبع تدلُّه كيف يتَّجه؛ ولا قوَّة خارجيَّة تأمره أن يفعل ما هو مزمع أن يفعله. لكنَّه بدليل من نفسه، وبصوت من داخله، يدير وجهه نحو الشمال الغربي، وبعد أن يصفِّق بجناحيه ثلاثًا، يمتطي الهواء. ولا حزن في قلبه على أمسية خمسة قرون يتركها وراءه، ولا خوف من أغدية خمسةٍ أخرى يقابلها. وهو يعرف محجَّته كلَّ المعرفة. في وادي النيل البعيد مدينة كان المصريُّون يدعونها "آنُّو"، والعبرانيون "بيت شمس"، والروم "هليوبوليس". وفي تلك المدينة هيكل مكرَّس لعبادة الإله "رَعْ". الفينكس يعرف المدينة والهيكل، ويعرف الفسحة التي سيستقرُّ عليها من المذبح. لأنَّه، منذ أجيال لا تحصى، يقصد إلى جلجثته هذه مرَّة في كل خمسمائة سنة ليتقبَّل عليها الموت. ومرَّة في كل خمسمائة سنة يعود منها تاركًا الموت في حيرة وارتباك. يشقُّ الفينكس الهواء بجناحيه القويَّين مسرعًا نحو وادي النيل، فتجتمع من حوله شتَّى الطيور لترافقه، ولو بعض المسافة، فتُظهِر له تجلَّتها واحترامها. ولا يزال يطوي المسافات إلى أن تبدو لعينيه هليوبوليس. في هيكل رَعْ نافذة فوق المذبح تطلُّ منها الشمس فتمتزج أشعتُها بدخان البخور وتضفر منه غدائر من ذهب وفضَّة كأنها أنفاس أرواح تائهة. وهذه الغدائر تلتفُّ وتنحلُّ فوق المذبح كأنَّها خيوط ممدودة على منوال خفيٍّ، وكأنَّ يدًا خفيَّة تحوك منها أنسجة غريبة. وليس في الهيكل الواسع المظلم سوى كاهن عجوز غارق في تأمُّلاته. يسمع الكاهن بغتة حفيف أجنحة يقطع عليه مجرى تأملاته. وإذ يرفع عينيه يبصر على المذبح طائرًا عجيبًا يغتسل بنور الشمس، وقطُّ لم تقع عيناه على أجمل منه. فتأخذه الدهشة. ولا تلبث دهشته أن تنقلب إلى رهبة، إذ يحدِّق إلى الطائر فيراه قد انتصب رافعًا جناحيه إلى فوق. ثم يراه يصفِّق بهما تصفيقًا حادًّا. وما هي إلاَّ لمحة حتى يلتهب الجناحان فيبدوان كأنهما مروحة من نار. ويندمج الطائر بأشعة الشمس حتى ليشكل على الكاهن أن يفرِّق بينهما. وما هي إلا لمحة أخرى حتى يرتفع الجناحان إلى أعلى، وقد انقطعا عن التصفيق، فتبدو كلُّ ريشة كأنَّها مشعل من نار حيَّة. يكاد الكاهن لا يصدِّق عينيه من شدَّة دهشته. فحيث رأى منذ لحظة طائرًا حيًّا يرى الآن ألسنة من لهيب تثب إلى فوق. ويا له من لهيب ما سبق له أن أبصر نظيره في كلِّ حياته! هو لهيب يرتدُّ البصر كليلاً عن بهائه، وتسكر الأنفاس بعطره. ألا تبارك رَعْ الأزلي الأبدي، الذي يحيي نفسه بنفسه ويحيي كلَّ شيء! يملأ اللهيب الهيكل بأشباح رائعة، كلُّها يثب إلى فوق ويتلاشى في وثباته. ورويدًا رويدًا تخمد النار تاركة حفنة من الرماد المتوهِّج. يا للخسارة أن يهلك طائر بديع كهذا الطائر وفي صورة مفجعة كتلك الصورة! ولكن... أحقًّا أنه قد هلك؟ يفرك الكاهن عينيه ليتأكَّد من أنه ليس في منام، فيرى – ويا للعجيبة! – يرى طائرًا يخرج من كومة الرماد المتوهِّج، كاملاً بكلِّ تفاصيله، عجيبًا بجماله، كالطائر الذي التهمته النار منذ لحظة. فكأنَّه هو. بل هو هو. لا خلاف على أن اسم الفينكس يوناني. والكلمة تعني ، نوعًا من النخيل. إن يكن أصل الاسم في شك فأصل الطائر ذاته أكثر تعقُّدًا من الاسم. فقد يكون فينيقيًّا. وقد يكون مصريًّا. وأقرب شبيه له في قديم الآثار الكتابية تقع عليه في ذلك السِّفر المصري العجيب المعروف بـكتاب الموتى. مَن يطالع كتاب الموتى يرَ أن طائر البنُّو كان يرمز إلى رَعْ – الإله الذي ولد نفسه من نفسه وما كان يعرف الموت. إلا أن كاهنًا مصريًّا اسمه "هورابولُّو" قد أوجد صلة متينة بين الطائر المصري والفينكس، وذلك في القرن الخامس قبل الميلاد. ففي الترجمة اليونانية لكتاباته نسمعه يتكلَّم عن طائر معروف عند المصريِّين وفي تقاليدهم. واسمه في الترجمة اليونانية "فينكس". وبعد أن يتكلَّم هورابولُّو عن ظهور هذا الطائر مرَّةً في كلِّ خمسمائة سنة يصف موته هكذا: عندما يشعر الفينكس بدنوِّ أجله يطرح نفسه بعنف على الأرض فينجرح ويسيل دمه. ومن دمه المتجمِّد يولد فينكس جديد. وهذا حالما يكتسي بالريش يطير بوالده إلى هليوبوليس. وإذ يبلغانها يموت الوالد عند شروق الشمس. فيحرقه الكهنة المصريون. وأمَّا الفينكس الجديد فينطلق إلى بلاده. هكذا درجت حكاية الفينكس على ألسنة القدماء وأقلام كتَّابهم وشعرائهم. وفي اللاتينيَّة كتاب يدعى Anecdota Syriaca، أو الحكايات السريانيَّة، وردت فيه أسطورة الفينكس كما يلي: يقولون كذلك إن في بلاد الهند طائرًا عظيمًا يأتي مرَّةً في كل خمسين (كذا) سنة إلى جبل لبنان. وهناك يجمع أطيب العطور وأجمل الأزهار ثم يعود إلى الهند. ومجيئه يكون في شهر نيسان. ففي ذلك الشهر يقيم كاهن المنطقة مذبحًا على قمَّة جبلٍ عالٍ ويبني حول المذبح شبه بيت من أغصان الكرمة. فيأتي الطائر ويدخل البيت ويقف على المذبح، ثمَّ يأخذ يصفق بجناحيه حتى يلتهبا ويلتهب البيت معهما فيصبح الكل رمادًا. وبعد ثلاثة أيَّام يصعد الكاهن إلى قمَّة الجبل ويتفحَّص الرماد وفيه يجد دودة صغيرة. والدودة هذه تكبر ثمَّ تتحوَّل طائرًا كالذي احترق. وهذا الطائر يعود من حيث جاء. لقد بقي الإيمان بالفينكس حيًّا حتى عصر التجدُّد Renaissance. وبعد ذلك أخذ يتقهقر من وجه "العلم" الذي لا يؤمن إلاَّ بالبرهان "الحسِّي". حتى أصبح "خرافةً" قلَّ من يهتم بها. وأكثر الناس لا يعرف منها غير الاسم. ولكنَّ الفينكس ما أُدرِجَ في أكفان الإهمال والنسيان إلا من بعد أن خلَّف لنا آثارًا لا تمحى من روعة جماله ومعانيه. لِنَقُل إن الفينكس رمز. ولكن إلى مَ يرمز؟ ألعلَّه وليد شوق الإنسان الفاني إلى عدم الفناء؟ أم لعلَّه قناع من الجمال حاكه الوهم لأعين قرَّحتْها الشناعة؟ أم هو رؤيا من رؤى الإلهام الذي ينير الآباد بطرفة عين وينشب من خلال الأشكال إلى روح الأشياء وجوهرها؟ المصريِّين اتَّخذوه رمزًا للشمس في شروقها وغروبها لأنَّهم كانوا يعبدون الشمس تحت اسم رَعْ. في خواء الظواهر المتقلِّبة تعوَّد الناس أن يميِّزوا بين نوعين من التغير، وأن يدعوا الواحد حياة والآخر موتًا. أما الفينكس فكأني به يقول إنَّ الموت والحياة واحد لأن مصدرهما واحد، وهو الروح المرموز إليه بالنار. فالنار أبدًا هي هي. تلتهم الأشياء ثمَّ تكثرها وتنوِّعها. لكنَّها لا تلتهم ولا تكثر أو تنوِّع ذاتها. هي النار – أو الروح – تلك الحياة الأولية التي يدعوها العلم الحديث "الطاقة" ثم إن الناس يباهون بما يدعونه "نموًّا" و"تقدُّمًا". أما الفينكس فكأنِّي به يقول أن ليس في الحياة نموٌّ وتقدُّم. إذ إن كلَّ ما ينمو يحمل في داخله جراثيم انحلاله. وكلُّ ما ينحلُّ لا يدوم. وكل ما لا يدوم لا وجود أو لا حقيقة له في ذاته؛ بل هو يستمدُّ حقيقة وجوده من الحقيقة الواحدة التي هي اليوم مثلها أمس، وغدًا مثلها اليوم؛ فلا يطرأ عليها أقلُّ تغيير أو تبديل. وهي لا "تنمو"؛ إذ لا شكل لها ولا قياس، ولا بداية ولا نهاية. وهي لا "تتقدَّم"؛ إذ ليس في الوجود ما هو خارج عنها لتتقدَّم من ذاتها إليه. والفينكس يقول إن السبيل الأوحد إلى "النموِّ" هو بالنقصان أو بالتقلُّص – بالتجرُّد من الأشكال الخارجية للوصول إلى الحقيقة الكامنة في الأشكال – إلى النَّار التي هي رمز الروح الكائن في كلِّ شيء. وإن السبيل الأوحد إلى "التقدم" هو بالرجوع إلى الوراء – كلٌّ إلى هليوبوليسه. أما المدة التي يحياها الفينكس بين التجدُّد والتجدُّد والتي تختلف باختلاف الروايات بين خمسين، وخمسمائة، وخمسمائة وثمانين، وألف وأربعمائة وإحدى وستين، وسبعة آلاف سنة فالمتفق عليه أنها ترمز إلى أدوار وتقلبات فلكيَّة. فلنتركها للفلكيِّين. غير أنَّ فيها معاني لا صلة لها بالأفلاك. فكأنِّي بالفينكس الذي يعمِّر أجيالاً طويلة يقول إن أعمار الكائنات موقوفة على جمال حياتها الباطنيَّة وانسجامها مع ذاتها ومع ما حواليها من كائنات سواها. فهي تطول بطول ذلك الانسجام وتقصر بقصره. هكذا نرى الفينكس الذي لا يسطو على مخلوق من أجل طعامه، ولا يقاتل مخلوقًا في سبيل رفيقة أو عشيقة، يعيش في أُلفة مع كلِّ مخلوق. ولأنَّه لا يشتهي شيئًا تراه لا يخاف شيئًا بل يحيا في سلام مع كل شيء. ومن ثمَّ فأنا لا أعرف مثالاً كمثال الفينكس يبين لك أن نقاوة الجسد – كنقاوة القلب – قوَّة لا تُقهر. هنالك صفة تفرَّد بها الفينكس عن كل الطيور التي ابتدعها الإنسان على شاكلته. فهو أبدًا وحيد، لا رفيق له من جنسه. فكأنَّه ذكر وأنثى معًا. عن ميخائيل نعيمة

تعليقات

التنقل السريع